Sunday, July 03, 2005

حيث يسكن القلب
كتبت: د/ سحر الموجي

ذهبت بالأمس إلى حيث يسكن قلبى. كانت منطقة الحسين هادئة على غير العادة. الحادية عشر مساء و المقاهى نصف شاغرة. تعجبت قليلا إذ أننى أذهب إلى هناك أحيانا فى أوقات متأخرة و فى منتصف الأسبوع و لا أجد موضعا لقدم. كان الهدوء النسبى رائعا خاصة بعد فترة إشتياق للمكان كانت قد طالت. ذلك هو المكان الوحيد الذى إن غبت عنه بضعة أسابيع يغيب عنى جزء من نفسى. لا أعرف هل يرجع هذا العشق إلى بيت جدتى الذى عشت فيه طفولتى و الذى جذب إليه أبى أحمد فؤاد نجم عندما خرج من السجن فى الستينيات و قدمه إلى الشيخ إمام فشكلا منذ تلك اللحظة أهم ثنائى فنى سياسى معارض للظلم و منتصر للإنسان المصرى البسيط الباحث عن لقمة عيش مغموسة بأمان و كرامة. و كبرت فى بيت جدتى المفتوح لإمام و نجم و لمثقفى مصر الذين جاؤا من أجلهما. و كبرت أكثر و بعد عنى المكان فإغتربت فى شوارع لم تفهمنى و ميادين تبرأت منى. أمضيت سنين الغربة حتى عادت إلىّ القاهرة الفاطمية فى قصة قصيرة بعنوان "عبق المكان". لم أكن أدرك قدر الإشتياق إلى الأزقة و الحوارى و هذا المزيج الفريد من رائحة البخور و الجلود المدبوغة و عرق البشر إلا لحظة الكتابة. و منذ تلك اللحظة تكررت عودتى إلى المكان. كانت الزيارات المتكررة تعيد إلىّ أجزاء منى كانت منسية و تعيد بناء أجزاء متهدمة و تمحو ببطء و نعومة تجاعيد الغربة عن قلبى.

لن أعرف أبدا إن كان عشقى للمكان يرجع إلى جذور أجدادى الممتدة فيه أم لأنه كان سيسكننى فى كل الأحوال. لكننى أعرف جيدا أن قلبى يسكن هناك حيث المساجد القديمة التى حفظت بصمات أصابع بنائيها و العقول المبدعة لمصمميها و الروح المحلقة لذاك الزمان. الأبواب الخشبية العملاقة المطعمة بالنحاس و الصدف. المآذن التى تناجى السماء رغما عن صخب البشر و جلبة الشوارع الضيقة. و تلك الأحجار على الأرصفة النحيلة لا تزال تحمل آثار أقدام العابرين و أحزانهم. تئن الأرصفة تحت وطأة أوجاعنا كما فعلت دوما لكنها لا تشتكى مثل أم رؤوم تتحمل ألم أطفالها و تحمل عنهم بعض الهم.

قلبى يسكن هناك. و السكنى هنا ليست فقط من "العيش" بل هى أصلا من "السكون" حين يتخفف القلب من أوجاعه فيخف الجسد و تهدأ دقات القلب فأسمع صوت الصمت. أحسه و أكاد أن ألمسه. أغمض عينى و يدى ترقد على حجر عتيق. يهمس الحجر بحكايا قديمة عن الغربة و عن بشر ضربوا بجذورهم هنا كى يقهروها و يسكنوا. هنا تسكن الأحلام كذلك. يتحول الحلم إلى مآذن و أبواب خشبية و آيات قرآنية على الجدران و نافورات رخام تتوسط ساحات المساجد و آثار أقدام من مروا فوقها. و تدور فى فلك المكان بقايا أحلام نامت فى عيون أصحابها. ليس غريبا أن تسكن القاهرة الفاطمية قلب نجيب محفوظ فيسكنها رواياته. ليس غريبا أن يأتيها صديقى الفرنسى للمرة الأولى فيغمض عينيه و يتنفس مندهشا من تلك الراحة التى هبطت على قلبه و هو يسير الشارع النحيل حيث المساجد و البيوت القديمة على الجانبين كأنها ذراعان لأم أولى لكل البشر. و ليس غريبا أن كل مرة أسير هذا الطريق أسمع أحمد فؤاد نجم يغنى للمكان بصوت صاحبه الشيخ إمام:

يا حوش آدم يا دارنا
يا ساكن حضن جارنا
سيدنا الحسين تبارك
شهيد الإنسانية
مدد سيدنا و شهيدنا
يا غايب و مواعدنا
يكون عيدك و عيدنا
يوم طلعة شمس جاية.

1 Comments:

At 12:54 AM, Blogger Doaa Samir said...

كثيرا ما يتبادر إلى ذهني تساؤل عن الأمكنة وكيف تسكن وجداننا وتشكله. الغريب أنها أحياننا تستحوذ علينا بلا مبرر منطقي، يعني أنا مرتبطة بنفس روح الأماكن التي ذكرتيها
يا د. سحر مع إني لا أملك فيها بيتاً ولا يوجد لها في ذاكرتي لحظة أو حدثاً أو حتى حكاية. لكنها تكفيني هي لوحدها بحواديتها ونقوشها المتربة. تحتكرني بعبقها ودفئها المعتق.

عارفة,,, لما أمرّ بجانبها، أشخص لها ببصري وقلبي ويستحيل كل ماحولي من سيارات وناس وزحمة لدوائر تنداح وهي تذوب وتتماوج فلا أشعر إلا بي أنا والبيت القديم المهجور بحليته وأرضية شرفته الخشب أو بقايا "التكية" أمام مسجد السيدة زينب. وأجدني أستجيب طائعة لها فأستحيل بدوري إلى جزء منها أعيش فيها وأتخيل حالها لما كانت تدب فيها حيوات مختلفة عن التي فيها الآن. لكنني رغما عني أنسحب قبل أن أدخل جواها خوفاً من جهلي طريق الرجوع

 

Post a Comment

<< Home