Sunday, July 31, 2005


عم طه


كتب:
حامد

أعشق الكتب القديمة، أعشق أوراقها الصفراء، ورائحة التراب بين الصفحات، أعشق أن أفصل صفحاتها الملتصقة والتي لم يقرأها أحد قبلي رغم أنها مطبوعة من عشرات السنين، أحس حينها أني أفتح صندوقاً مغلقاً من صناديق الكنوز القديمة، أو زجاجة من الزجاجات التي كانت تلقيها السفن قديماً في البحر وتحوي رسالة موجهة لي وحدي، لذلك عندما ألمح أي بائع للكتب القديمة يفترش أي رصيف، أشعر أنني أنجذب إليه تلقائياً وبشدة، وبلهفة أمر على أسماء الكتب والمؤلفين بسرعة شديدة قبل أن يقترب أي "زبون" آخر من كنوزي الخاصة و"يسطو" عليها..

أتذكر تماماً متى بدأت علاقتي بالكتب القديمة، كان هذا في سنة 1994، كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي، وكنت قد بدأت التعرف على عالم الدكتور "نبيل فاروق". التي كانت أسعار رواياته زهيدة مقارنة بالأسعار حاليا بعد الغلاء الفاحش في سعر الورق وخلافه، وعلى الرغم من ذلك كانت أثمان روايات رجل المستحيل وملف المستقبل مرتفعة لشخص مثلي مصروفه اليومي 50 قرشا لا أكثر، وأريد أن أقرأ كل أعداد السلسلتين السابقتين، لهذا كان الحلم الذي يسيطر على دائماً وأنا أحصي ما معي من الجنيهات القليلة آخر الأسبوع في مكتبة "كذا لون" -التي كنت أشتري منها روايات الدكتور نبيل فاروق– هو: يا سلام لو كان فيه حد عنده كل الأعداد دي ومش عارف قيمتها "وارثها أو سارقها مثلاً.." ويبيعها بنصف الثمن...

بالطبع لم أكن حينها أعرف أي شيء عن سور الأزبكية أو أن هناك مكانا مخصصا لبيع الكتب القديمة بكل أشكالها وأنواعها، إلى أن دلني أحد أولاد الحلال إلى "سوق الكتاب" وهو عبارة عن عدد كبير من الأكشاك لبيع الكتب القديمة يقع خلف مستشفى الحسين الجامعي قريباً من شارع صلاح سالم، وكانت الحكومة قد نقلت إلى هذا المكان المقطوع كل بائعي الكتب القديمة الذين كانوا في الأزبكية، ولو علمتم أن هذا المكان الجديد كان على بعد عشرة دقائق فقط مشياً على الأقدام من بيت جدتي بالحسين، فستعلمون حينها ما معنى أن تتحقق أحلامك في الحياة! فكنت أقضي أغلب الإجازة الصيفية وإجازة نصف العام عند جدتي العزيزة بالحسين لأكون قريباً من سوق الكتاب، كان هذا بالطبع قبل انتشار الكمبيوتر والإنترنت الذي أجبرني على ألا أبتعد عن البيت لفترات طويلة..

في تلك الأيام السعيدة في بداية المرحلة الإعدادية تعرفت على "عم طه" بائع الكتب القديمة لأول مرة، والذي كان كشكه يقع في أول سوق الكتاب، ومن حينها صرت زبوناً دائماً عنده..

لم يكن "عم طه" يبيع الكتب كما تباع الطماطم في السوق مثلا ً، بل كان رجلاً مثقفاً بحق يعرف قيمة الكتب التي يبيعها، ويعرف أيضاً لمن يجب أن تذهب الكتب، فكثيراً ما كان يزيد في سعر كتاب إلى حد مبالغ فيه لكي لا يذهب لمن لا يستحقه، في حين أنه كان لا يتكلم في أية أثمان لكتاب إذا أحس أن الشخص الذي أمامه يحتاج إلى هذا الكتاب ويعرف قيمته فعلاً، أنا شخصياً اشتريت منه عدة مرات بطريقة "الشُكك": ادفع اللي معاك دلوقتي وبعدين ابقى هات الباقي في أي وقت..

وكانت ميزة عم طه العظيمة أنه كان لا يأخذ تقريباً أية إجازات، فكان كشكه مفتوحاً دائماً ليلاً ونهاراً حتى في أيام الأعياد، فكنا عندما نجتمع في بيت العائلة بالحسين في ثاني أيام العيد كالمعتاد، وما أن نحصل على العيدية حتى نطير إلى عم طه العزيز لنحول كل ما جمعناه من عيديات إلى كتب.. فعلاً كان العيد فرحة.. ظلّت "عصابة الهرم" –وهو الاسم الذي كان يطلقه عم طه عليّ وعلى مجموعة من أصدقائي نسكن جميعاً في حي الهرم– زبوناً دائماً لعم طه حتى بعد أن انتقل سوق الكتاب من جديد إلى مقره الحالي في العتبة، وحتى في معرض الكتاب عندما تم تخصيص مكان لبيع الكتب القديمة من عدة سنوات، وظل هو كعادته محتضناً لنا ومرحباً بنا في كشكه المكتظ بالكتب والذي يقع أيضاً في بداية سوق الكتاب الجديد بالعتبة..

رحم الله عم طه تاجر الكتب المثقف الذي علمني حب القراءة وحب الكتب القديمة.. تاجر الكتب الذي لم يتاجر أبداً بالثقافة..


0 Comments:

Post a Comment

<< Home